قصة عبقرية طبية ملهمة: الدكتور حرب عطا الهرفي البلوي: رائد الطب والمناعة من البادية إلى العالمية

طفولة البدايات.. وشغف لا يعرف الحدود

في قلب بادية الزرقاء بالأردن، حيث تترامى الرمال وتنسج الرياح قصص البسطاء، وُلد حرب بن عطا الهرفي البلوي عام 1942. نشأ في كنف أسرة بدوية متواضعة، حيث لم تكن الحياة سهلة، لكنها كانت مليئة بالدروس والتجارب التي زرعت في داخله قوة الإرادة والتصميم.

منذ طفولته، لم يكن مجرد فتى عادي يركض بين الكثبان الرملية، بل كان يحمل شغفًا لا يُطفأ تجاه التعلم. بدأ رحلته مع التعليم في مدارس الأردن، لكنه لم يتوقف عند حدود بلدته، بل شق طريقه نحو مخيم عين السلطان للاجئين الفلسطينيين قرب أريحا، حيث واصل دراسته في ظروف لم تكن رحيمة، لكنه آمن أن المستقبل يتحقق بالإصرار. ورغم التحديات، حصل على منحة دراسية في الكلية العلمية الإسلامية بعمان، وتخرج منها عام 1962، ليبدأ فصلًا جديدًا من رحلته.

رحلة العلم: من الشرق إلى الغرب

لم يكن الطريق إلى الحلم مفروشًا بالورود، لكنه كان محفوفًا بالأمل. التحق حرب البلوي بكلية الطب في جامعة القاهرة عام 1962، ثم واصل مسيرته في جامعة بغداد، حيث تخرج منها طبيبًا عام 1969. لكنه لم يكتفِ بذلك، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية وجهته التالية، وهناك، بدأ رحلته التخصصية:

  • عمل متدربًا في مستشفى سانت جون بجامعة واين ستيت في ديترويت (1971 – 1972).
  • أكمل برنامج الإقامة في طب الأطفال بمستشفى تولين الطبي في نيو أورلينز (1972 – 1974).
  • تخصص في أمراض الحساسية والمناعة في جامعة تينيسي للعلوم الصحية (1974 – 1976).
  • حصل على البورد الأمريكي في طب الأطفال عام 1976، ثم أكمل تخصصه في أمراض الحساسية والمناعة عام 1977.

اكتشاف غيّر حياته.. وحياة الآخرين

في أمريكا، لم يكن مجرد طبيب يجري الفحوصات ويصف العلاج، بل كان باحثًا يبحث عن إجابات، وطبيبًا يرى خلف الأعراض قصصًا تستحق الحل. في الثمانينات، حدث اكتشاف غير متوقع جعله حديث الصحافة الأمريكية؛ حيث لاحظ انتشار حالات الحساسية بين طالبات الكشافة الأمريكية، وبدأ في تتبع الأسباب. بعد بحث طويل، اكتشف أن السبب لم يكن في الطعام أو البيئة، بل في الخيام المستخدمة، حيث كانت مصنوعة من مواد تسبب تهيج الجهاز المناعي. هذا الاكتشاف لم يُنقذ حياة الفتيات فحسب، بل جعل منه اسمًا لامعًا في مجال الطب والمناعة.

- Advertisement -

العودة إلى الوطن.. ورد الجميل

رغم النجاح الكبير الذي حققه في الولايات المتحدة، كان هناك نداء داخلي أقوى، نداء الوطن، نداء الرغبة في رد الجميل. عاد الدكتور حرب البلوي إلى المملكة العربية السعودية عام 1980، والتحق بـ مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بالرياض، حيث أسس قسم أمراض الحساسية والربو والمناعة، وأشرف على تدريب أجيال من الأطباء حتى عام 2003.

لكن رحلته لم تتوقف هنا، ففي عام 2003، قرر أن يخوض تحديًا جديدًا، فأسس المركز الوطني للحساسية والربو والمناعة في الرياض، ليصبح من أهم المراكز الطبية المتخصصة في المنطقة.

ذكريات المستقبل.. والطبيب الإنسان

لم يكن الدكتور حرب مجرد طبيب يعالج المرضى، بل كان إنسانًا يحمل قصة ملهمة أراد أن يشاركها مع العالم. في كتابه “ذكريات المستقبل: طبيب من قلب البادية”، دوّن تفاصيل رحلته، من صبي يجري بين خيام البادية إلى عالم يحاضر في أكبر المؤتمرات الطبية. لم يكن الكتاب مجرد سيرة ذاتية، بل كان رسالة أمل لكل شاب يحلم بمستقبل مختلف.

تشجيع العلم.. وتحفيز الأجيال

إيمانًا منه بأن العلم هو أثمن ما يمكن أن يُقدَّم للجيل القادم، أطلق “جائزة الدكتور حرب الهرفي للتميز العلمي”، والتي تُمنح سنويًا للطلاب المتفوقين من قبيلة بلي في المملكة الأردنية الهاشمية، لتكون دافعًا للمزيد من الشباب الطموح لتحقيق أحلامهم.

أسرة طبية.. وحلم مستمر

لم يكن النجاح حكرًا على الدكتور حرب البلوي وحده، بل امتد ليشمل أسرته. فابنته الكبرى سوسن أصبحت أخصائية تغذية إكلينيكية في مستشفى الملك فيصل التخصصي، بينما حصلت سمر على دكتوراه في علم النفس الإكلينيكي، وتم تكريمها من قبل الرئيس الأمريكي باراك أوباما لجهودها في خدمة المجتمع. أما زينه، فقد أصبحت طبيبة متخصصة في أمراض الباطنة والغدد الصماء وتعمل كعضو هيئة تدريس في إحدى الجامعات الكندية.

- Advertisement -

الخاتمة: إرث لا يُنسى

ليست القصة مجرد نجاح طبي، بل هي رحلة إنسانية، عنوانها الإصرار والتفاني. من بادية فقيرة، إلى أرقى المستشفيات العالمية، استطاع حرب البلوي أن يصنع اسمًا يخلّده التاريخ. لكنه لم يكن يسعى للمجد الشخصي، بل كان يسعى لأن يترك أثرًا، أن يكون طبيبًا لا يعالج الأجساد فحسب، بل يداوي القلوب بإلهامها.

إنه نموذج حيّ لمن يسأل: “هل يمكن للظروف أن تقف في وجه النجاح؟” والجواب تجده في رحلته، حيث لا شيء استطاع أن يوقفه، لا الفقر، ولا الغربة، ولا التحديات.

إنه ببساطة.. “حرب الهرفي البلوي”، الطبيب الإنسان، والقصة التي لن تُنسى.

- Advertisement -
شارك هذا الموضوع
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

CAPTCHA


هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.