سلامة بن محمد الهرفي البلوي: سيرة علمية زاخرة بالعطاء والمعرفة

تظل الأسماء العظيمة حاضرة في ذاكرة الزمن، ليس فقط لأنها صنعت فارقًا، ولكن لأنها تركت أثرًا يصعب تجاوزه. ومن بين تلك الأسماء، يبرز الأستاذ الدكتور سلامة بن محمد الهرفي البلوي، أحد أعمدة البحث الأكاديمي والتاريخي في العالم العربي، والذي أضاء بمؤلفاته وأبحاثه العديد من الزوايا الخفية في الحضارة الإسلامية. رحلة امتدت لعقود من البحث والتدريس والإبداع، لتصبح نموذجًا يُحتذى في العطاء العلمي والفكري.

النشأة والبدايات: شغف يتجذر في التاريخ

وُلِد الدكتور سلامة محمد الهرفي البلوي في 5 سبتمبر 1957 بمدينة الزرقاء في المملكة الأردنية الهاشمية، ونشأ في بيئةٍ عربية أصيلة، تزخر بالقيم والتقاليد الراسخة. منذ سنوات طفولته، وجد نفسه مولعًا بالقراءة، وكان التاريخ أحد أولئك الرفقاء الذين رافقوه على مدار حياته، حيث وجد في صفحاته روح الأمة وسِجِلّها الحافل بالمجد والتحديات.

بعد إنهائه دراسته الثانوية، التحق بالجامعة الأردنية حيث حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ الإسلامي عام 1978. لكن شغفه لم يقف عند هذا الحد، فقد قرر أن يواصل تعمقه في هذا المجال، فشدّ الرحال إلى المملكة العربية السعودية حيث حصل على درجة الماجستير من جامعة الملك عبد العزيز عام 1982، ثم انتقل إلى جامعة أم القرى، ليحصل على درجة الدكتوراه عام 1985، مقدمًا أطروحة متميزة أضافت إلى المكتبة التاريخية الإسلامية بُعدًا جديدًا.

محطات مهنية: من التدريس إلى الريادة الأكاديمية

بعد حصوله على الدكتوراه، لم يكن الدكتور سلامة البلوي مجرد أكاديمي يجلس في قاعة المحاضرات، بل كان مفكرًا يضع بصماته في كل مكان يحلّ فيه. بدأ حياته المهنية في جامعة الملك فيصل، حيث تولّى رئاسة قسم الدراسات الاجتماعية، ثم انتقل إلى الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، ليشغل منصب رئيس قسم الدراسات القرآنية والحديثية.

- Advertisement -

لكن شغفه بالتاريخ الإسلامي لم يتوقف عند التدريس، فقد اختير ليكون رئيس قسم التاريخ والحضارة الإسلامية في جامعة الشارقة، قبل أن يُصبح أول مدير لمؤسسة الشارقة الدولية لتاريخ العلوم عند العرب والمسلمين، وهو منصبٌ يجسد ريادته في هذا المجال، حيث عمل على توثيق وتسليط الضوء على الإسهامات العلمية للحضارة الإسلامية عبر العصور.

لم يقتصر عطاؤه على التدريس والإدارة، بل امتد ليشمل الإشراف الأكاديمي على العديد من الرسائل العلمية، والمشاركة في تحكيم الأبحاث والبرامج الدراسية في عدد من الجامعات المرموقة.

إضاءات علمية: مؤلفات تُعيد كتابة التاريخ

كان الدكتور سلامة البلوي يؤمن بأن التاريخ ليس مجرد أحداث مدونة، بل هو كيانٌ حيّ يعكس صيرورة الحضارات، ولهذا كرّس حياته للبحث والتأليف، ليُقدّم للعالم العربي ثروة علمية هائلة تجاوزت 70 كتابًا وبحثًا علميًا، تناول فيها قضايا نادرًا ما تطرّق إليها الباحثون.

أبرز مؤلفاته:

  1. “معالم الحضارة الإسلامية” (2016) – دراسة معمقة لأهم ركائز الحضارة الإسلامية وإنجازاتها العلمية.
  2. “رعاية الضعفاء في الحضارة الإسلامية” (2014) – استعراض لجوانب التكافل الاجتماعي في الإسلام.
  3. “تاريخ أمن المعلومات في الحضارة الإسلامية” (2007) – بحث فريد حول مفهوم الأمن الرقمي في التراث الإسلامي.
  4. “المرشد الوجيز في التاريخ والحضارة الإسلامية” (2011) – مرجع أكاديمي يختصر عصارة التاريخ الإسلامي.
  5. “أضواء على دور قبيلة بلي في الحضارة العربية والإسلامية” (1996) يغوص الكتاب في بحث جاد في التاريخ ليقدم نتاج بحثه المؤلف عند دور قبيلة بلي في الحضارة العربية والإسلامية.
  6. “المخابرات في الدولة الإسلامية” (1990) – أول دراسة شاملة حول دور الاستخبارات في بناء الدولة الإسلامية.

إلى جانب هذه المؤلفات، قدّم الدكتور البلوي مجموعة واسعة من الكتب التي تناولت جوانب متعددة من التاريخ الإسلامي، مثل دور المرأة في الاستخبارات الإسلامية، نظم القضاء في الدولة الإسلامية، وأخلاقيات التسامح في الحضارة الإسلامية.

إسهامات بحثية: دراسات تعيد تشكيل الفهم الأكاديمي

لم يكن التأليف هو المجال الوحيد الذي أبدع فيه الدكتور البلوي، بل كانت له إسهامات بحثية رائدة تناولت موضوعات غير تقليدية، مثل:

- Advertisement -
  • “نظم الاستخبارات الأيوبية في عهد صلاح الدين الأيوبي” (2007) – تحليل لدور الجواسيس والمعلومات السرية في الحروب الصليبية.
  • “المثاقفة بين العرب والغرب: التجربة الأندلسية نموذجًا” (2006) – دراسة لعلاقة التأثير والتأثر بين الثقافتين الإسلامية والغربية.
  • “أوقاف بيت المقدس: نموذج لعدالة الإسلام والتسامح بين الأديان” (2006) – بحث في الأبعاد الإنسانية للأوقاف الإسلامية.
  • “دور حرية التعبير في الازدهار الحضاري” (2005) – دراسة تاريخية تقارن بين الحضارات بناءً على حرية الفكر والتعبير.

التكريمات والاعتراف الدولي

نظرًا لإسهاماته الكبيرة، حظي الدكتور سلامة البلوي بالعديد من الجوائز والألقاب الفخرية، من بينها:

  • درع شوامخ المؤرخين العرب عام 2007 – تقديرًا لإنجازاته في مجال التاريخ الإسلامي.
  • أستاذ كرسي شرفي للدراسات التاريخية والحضارة العربية الإسلامية في جامعة شيان بالصين (2017).
  • مستشار وسفير أكاديمي للجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا (2014).

هذه الأوسمة والتكريمات لم تكن مجرد شهادات تُضاف إلى سيرته، بل كانت دليلًا على أثره العميق في مجاله، وتأكيدًا على المكانة التي حققها في الأوساط الأكاديمية العربية والعالمية.

إرث خالد وأثر لا يُمحى

قد تتغير العصور، وتتحول صفحات التاريخ، لكن بعض الأسماء تظل محفورة في ذاكرة العلم والفكر، لأنها لم تكن مجرد أرقام في سِجلّات الجامعات، بل كانت مصابيح تضيء الطريق للباحثين والدارسين.

- Advertisement -

الدكتور سلامة بن محمد الهرفي البلوي لم يكن مجرد أستاذ جامعي، بل كان رجلًا حمل التاريخ في قلبه، ووهب حياته لتوثيقه وتحليله، ليترك خلفه إرثًا فكريًا سيظل مرجعًا للأجيال القادمة.

ولعل كلماته وأبحاثه، بما تحمله من رؤية علمية وإنسانية عميقة، ستظل تتردد في أروقة المكتبات والمراكز البحثية، شاهدة على مسيرة رجلٍ جعل من العلم رسالة، ومن التاريخ حياة.


↵ عبدالمنعم البلوي

2025/02/27 م

شارك هذا الموضوع
اترك تعليقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

CAPTCHA


هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.